الكاتب: غريب عسقلاني
02/11/2007
الهليون النبات الذي يبحث عن الضوء ، ينمو باستطالة فائقة ، ساق خضراء وأوراق بيضاء صغيرة فقيرة اليخضور ينبت في أسيجة الحواكير والبيارات حيث شجيرات السنط والعوسج ، ويظهر مرتاحاً بين صواريف الصبار (التين الشوكي)
والهليون معروف دولياً باسم الاسبرجس ، يؤكل مع سلطات الخضار ، أو يقطع ويقلى مع البصل والبيض .
لكن الهليون الذي عرفناه بعد أن غادرنا الكروم والحقول والبيارات ، وتلحفنا ببطانيات الاعاشة ، تحت السقوف القرميدية في المخيم ، هو ذلك الرجل النحيف الطويل الأشقر ، والذي يسكن غرب المخيم في نهاية الشارع العريض ، بيته مكون من غرفة واحدة ومطبخ ومرحاض ، وفسحة بالكاد تتسع لحصيرة صغيرة ، يعيش وحيداً لا يزور ولا يزار ، لا يعرف له أصدقاء أو أقارب ، يجلس على كرسيه القصير أمام بيته يدخن ، ويشرب الشاي ، ويراقب الناس بصمت ، يضحك ويعابث العجائز والنساء ، يهش لصغار الحارة ، ويوزع عليهم القروش والتعاريف.. يردد جملته الوحيدة
- كله من خير أهاليكم
يضحك الأهالي على ذلك الخير ويتساءلون ، من يقدم الخير؟ وهو الذي يكسح حفر المراحيض بمهارة معروفة ، فهو فارس المهنة الوحيد في المخيم ، لا ينافسه عليها إلا من اختار كسح حفرة مرحاضه بنفسه لضيق ذات اليد.
لا أحد يجادل حول أجرة الهليون ، جنيه مصري كامل، وقطعة صابون لوكس ، وزجاجة كولونيا (شبراويشي ثلاث خمسات)، اما أدوار الشاي فيتركها لجهود الزبائن ، ويرفض رفضاً باتاً تناول الطعام عند أي زبون، لأنه وكما يقال ، يأنف من طبيخ الناس في المخيم.
أدوات الهليون مميزة ، وتتناسب مع طبيعة عمله ، جرادل التوتياء البيضاء الملساء ، والطورية والكريك، والجاروف طويل الساق حاد البوز ، لتنظيف الزوايا ، ونبش الغائط من ثقوب جدران الحفرة .
يتحدث من قدر له دخول بيته بالصدفة ، عن الترتيب والنظافة ، ويثور الجدل حول ملابسه الثمينة النظيفة وأسنانه ناصعة البياض ، برغم شراهته للتدخين .
اختلف الناس حول أصله ، ردوه إلى يافا ، وحيفا ، واللد ومنهم من رده إلى بيروت ، ومنهم من قطع به سيناء إلى المنصورة ، ومنهم من أفتى بأنه ابن غير شرعي لجنكية يافاوية من أحد الجنود الاستراليين.
والمعروف عن الرجل تعاطيه للعرق ، فهو يشتري "بطحته" من أبي جريس مساء كل يوم ، ويدور في أزقة المخيم يدندن بصوت خفيض عذب ، ثم يتسلل إلى بيت شوشانا الجنكية ، حتى في الليالي التي تكون الجنكية خارج بيتها تحيي فرحاً تاركة ابنتها دلال الصبية ذات السن الذهبية.
لا أحد لديه معلومات عن علاقة الهليون بشوشانا ، ولا امرأة استطاعت الخروج بحكاية من بيت الجنكية تتعلق بالرجل.
***
اختفى الهليون عدة أيام ، ولم يظهر على كرسيه ، فتفرق الأطفال في الأزقة وحول مجمعات القمامة ، وكلّت أيدي من طفحت حفر مجاريهم لكثرة ما دقوا على بابه.. ولاحظ جيراته تكاثر "العِرس" وفحول الفئران في الحارة..
كسروا الباب فصدتهم رائحة الجيفة
وبعد أسبوع هبت الحارة على شوشانا ، التي احتلت وابنتها دار الهليون ، حاصرها الرجال فشمرت عن فخذيها ، فانفضوا عنها مذعورين ، وظل أحدهم يركض وعاد بالشرطة ، فألقت القبض على الجنكية وابنتها الصبية التي اتشحت بالسواد..
وفي مركز الشرطة ، وضعت شوشانا ساقاً على ساق وأشعلت سيجارة طويلة ، وقدمت قسيمة زواج الهليون من ابنتها. ولأول مرة يعرف الناس أن اسم الرجل هو "عز الدين" ، وأن الصبية دلال أصبحت أرملته..
وما زال الناس في المخيم يتحدثون عن زوجة الهليون الجميلة، التي كانت تقف عند باب الدار تضحك للمارة، فتبرق سنتها الذهبية في وجه الشمس، وترد على من يلاغيها :
- كثر خيركم .
غريب عسقلاني