....09/12/2007 - 11:11:04 م
المنحوتات السومرية توثيق لحضارة لاتأفل
أنامل فطرية تبقي التاريخ مفتوح العينين
زيدان حمود
الحضارة في المفهوم العام هي الارتقاء بالحياة إلي درجات أسمي، مخلفة نتاجها الذي يعكس تطورها علي مر الزمن، من مخلفات مادية، عمرانية واثارية، إضافة إلي إنتاجها الفكري والمعرفي، ونظام حياتها الاجتماعي، وما تسنه من قوانين وأنظمة، وما إلي ذلك مما يعكس رقي تلك الحضارة وازدهارها، أو همجيتها وتخلفها.. فلحضارة الأمم التي تومن بالعلم والتقدم ورقي العلم، وبناء الإنسانية علي نهج التسامح والارتقاء إلي ما يخدم البشرية ويخلد نتاجها، هي أمم قادرة علي إرساء حضارة راقية تدوم متروكاتها إلي أزمان طويلة، حيث تكون هذه المتروكات أشبه باللقي الثمينة التي يعثر عليها الإنسان في وقت هو أحوج مايكون فيه إليها، كما في الحضارة السومرية مثالا . أما في الأمم التي تسعي إلي خراب الإنسانية بالاستحواذ علي عطاءات الغير بقوة السلاح، والغزو وتدمير ثقافة الآخر ونهب ثرواته من اجل الفتح والسيطرة، فهي حضارة زائلة مصيرها الذكر السيئ، كما في مخلفات المغول التي لم يبق منها سوي أسماء اليخاناتها الجائرين، جنكيز خان، هولاكو خان، تيمورلنك خان وما تبعهم من أمراء الدولة الأيلخانية التي حكمت العراق مائة عام، لم يذكر منها التاريخ سوي الخراب والموت، علي عكس الحضارات الإنسانية الرائعة التي تركت ثمارها المتدلية للقطاف علي مدي عصور سحيقة، وأزمان سبقت الميلاد بآلاف السنين كالحضارة السومرية التي قال عنها أنطوان مورتكات في كتابه (الفن في العراق القديم) إن الحضارة التي برزت في الألف الثالث قبل الميلاد تحت ظل السومريين والأكيدين، وبلغت أوجها في الألفين الثاني والأول قبل الميلاد، أيام البابليين والآشوريين، هي نتاج تعاقب أجناس بشرية من أصول ولغات متباينة جدا، ومع ذلك فأنها تعكس نظاما روحيا متماسكا تهيمن عليه وحدة تامة يرافقها في نفس الوقت تنوع داخلي يمكن أن يقترن بتنوع حضارة الغرب المسيحي بعد العصر الكلاسيكي المتأخر..)
النتاج الروحي للحضارة
وبهذا فأن الحضارة كنتاج كوني معرفي مرتبط بشكل أو بآخر، بالنتاج الروحي المتمثل بالفكر اوالمعتقد الديني، حيث كلما نزع الإنسان إلي البساطة والسذاجة يكون إيمانه المطلق بالفرضيات الغيبية أعلي ما يكون، خاصة إذا كان معرضا لقوي هجومية خارجية لا يتمكن من صدها أو حماية نفسه بإرادته الخاصة، لذا فأنه يلجأ إلي تلك الغيبيات ويؤمن بها قسريا، كونها البديل الأكيد للتعويض عن النقص الدفاعي الذي يعاني منه، ومن هنا فأن اغلب الحضارات القديمة بنيت أساسا علي معتقدات دينية غيبية سماوية أصلا، حيث السماء بعيدة المنال عن كشف السر، وكلما كان السر بعيدا كانت هيمنته قوية في السيطرة علي العقول لعدم الوصول إليه وكشف حقيقته، ومع امتداد السماء عاليا، فأن الإنسان يحاول أيضا في ذلك الوقت المطاولة معها في بناء الأبراج والزقورات لمناجاتها واستلهام المعرفة منها، ومن خلال هذا المد الروحي المتدفق نحو السماء، تكون الهيمنة فيه عالية لذوي القدرة علي مناجاة السماء والاندماج في الغيبيات أكثر من غيرهم ممن ليست له القدرة في معرفة الطرق إلي السماء، التي تعددت الآلهة فيها وأصبح لكل جزء من الحياة بتفصيلاتها الدقيقة الاها خاصا به (اله للماء، اله للهواء، اله للحرب، اله للخصب،اله للرياح، آلهة للجمال وللحب) ،وهكذا كلما تعددت الآلهة تعددت معها طبقات الملوك والكهان والمحاربين الذين يمثلون الآلهة علي الأرض، كعناصر أولية لتشيد وبناء الحضارة، تليهم الطبقات المسحوقة، التي ستكون علي مر الزمن وقودا لطموحات الطبقات المتنفذة بقدرة الآلهة المفترضين .
لذا جاءت المخلفات السومرية الفخارية والحجرية والبرونزية تحاكي بفعلها الأولي الروح الغيبية المتمثلة بأصل الأشياء والانتماء إليها، ومحاكاة الطبيعة بكل صورها المتمثلة بالمرئيات في ذلك الوقت، حيث تركت لنا الحضارة السومرية سجلا توثيقيا حافلا بالحياة الاجتماعية آنذاك،من خلال ما صوره الفنان السومري وأبدعه خياله الغيبي المنسجم مع روح الكهانة والملوكية المفترضة، كبدائل أرضية لهيمنة السماء، وبهذا فأن الملاحم السومرية، والأشعار والأساطير تتمثل حية من خلال التماثيل والمنحوتات والرسوم المصورة علي الجدران، وهي تحاكي تلك الملاحم وتوثق لبطولات وانجازات الملوك في الحرب والأعمار، وما يتركونه من اثأر حضارية تحفظه اللوحات والتماثيل والنصب، كخزين معرفي كبير، فأصبح الفنان السومري النحات أو الرسام بمثابة كاتب تاريخ سير الملوك والكهنة أو الموثق الإعلامي البديل عن مؤسسة الأعلام المعاصرة وتقنياتها الحديثة ، في حفظ الحدث وتوثيقه بالصوت والصورة السريعة، التي تحفظ النتاج الحضاري المعاصر في كل ساعة تمر أو في كل دقيقة ولحظة، فمن خلال الأرشيف الإعلامي الكبير الذي تحتفظ به الخزانة المعلوماتية الإنسانية المعاصرة ما يغني الباحث المستقبلي عن حياتنا الآن بعد مثات أو آلاف السنين .
موثق اعلامي
وعليه كان النحات السومري بمثابة الموثق الإعلامي المعاصر، حيث حملت المنحوتات السومرية القديمة حياة اجتماعية متنوعة ومتفردة في الوصف، فلم يترك الفنان السومري شيئا إلا وصوره علي حقيقته، وصف الملوك وملابسهم وهيآ تهم ومجالس شوراهم، والطريقة التي يتلقون فيها مشورتهم السماوية من الآلهة المفترضين، كما صور الكهنة وملابسهم وطقوسهم والطريقة التي يمسكون بها الكؤوس المقدسة، صور المحاربين ورماحهم وملابسهم وعرباتهم الحربية، وطريقة انتقالهم من مكان إلي آخر، إضافة إلي تصويره للعراة حليقي الرؤوس من الطبقات المسحوقة، صور العمل والعمال، النساء الملكات والمغنيات، الحزن البكاء، أدوات الحرث وطاسة البناء ، كل تلك الأشياء جاءت موثقة توثيقا دقيقا في المتروكات السومرية النادرة .وبهذا فلن يصعب علي الباحث المعاصر الذي يريد معرفة الحياة السومرية بتفاصيلها سوي التمعن في صور التماثيل والأواني الخزفية ورسوم الجدران حتي يتمكن من وصف تلك الحياة من خلال النقل الدقيق الذي تركه الفنان السومري آنذاك، كما في الصور المرفقة التي يمكننا من خلال مشاهدتها وصفها وصفا دقيقا يساعد المتتبع للحياة السومرية معرفة حقائق الأشياء من خلال ذلك الوصف .
ونشاهد الاستخدامات الأولي للعجلة في العربات القتالية، حيث يبرز المقاتل بلباس الحرب وهو يمتطي العربة التي صممت علي شكل حصان برأس نسر، دلالة علي القوة تسحبها أربعة خيول أو أربعة حمير، وهي عربة قتالية خفيفة وسريعة، مصدر سرعتها الخيول الأربعة وصغر حجمها الذي لا يسمح سوي لمقاتل واحد أن يمتطيها وكأنها جواد .
المقاتل يمسك بيده سيفا أو ما يشير إلي انه سيف، وليس هنالك ما يدلل علي ان العربة تحمل أدوات قتالية أخري .
و نشاهد حملة الجرار العراة بلحي طويلة وأحزمة تشد البطن علي جسد عار تماما إلا من ذلك الحزام الذي لا يدلل علي العمل كما في الأحزمة المعاصرة للعمال البدائيون في الوقت الحاضر ولكن الأمر يختلف هنا في كون العمال المعاصرون يشدون أحزمتهم فوق الملابس وليس فوق أجسادهم العارية، ويشير كبر حجم الإناء الذي يحمله العامل أو الأجير فوق رأسه الي انه ربما يكون سقاءا يحمل فيه الماء من الأنهار إلي البيوت أو ربما يكون وعاءا للطبيخ أو إناءا للنقل حيث الأجراء من الحمالين الذين ينقلون بضائع الميسورين علي رؤوسهم، وبهذا يكون الفنان الذي جسد هذه المنحوتات المرئية في زمنه السابق، قد وثق في هاتين الصورتين رمزا أو دلالة لشيء ما، ولكنه رسم رجلين شكليهما يختلفان تماما، وجعلهما في وضعيتين مختلفتين من الجلوس، مما يدلل علي أن الرجل يوثق لحالة الإناء المحمول علي الرأس وعري الناس المتمثل بالطبقات الدنيا، علي عكس الملوك والهنة والمحاربين، الذين لم تبرز عوراتهم من خلال الرسوم أو المنحوتات .
ويبدو المظهر الخارجي الذي يتوضح في التمثالين اللذين يمثلان رجلين من الطبقات العليا وفيهما نشاهد أن شعر رأسيهما طويلا ومرتبا علي جانبي الوجه بفرق عريض من المنتصف، الشعر يلتصق مع اللحية بامتدادها حتي منطقة الصدر في نهاية الكتفين، اللحية وشعر الرأس مرتبين ومظفورين ومدهونين بدهان خاص يحافظ علي أناقتهما، التي تعطي شكلا قدريا للرجل الذي يكون عاريا في الأعلي، مع مئزر دائري يلتف علي خصره وينزل حتي قدميه بانكسارات طويلة علي امتداد الرداء الذي ينتهي عند القدمين .
وتصور بعض التماثيل لهيئة وملابس الكهنة الذين يظهرون، بلحي مظفورة بشكل هندسي بديع، تنزل إلي الصدر ما بعد الكتفين، وهم يؤدون طقوسهم لأحد رموز الآلهة علي حجر منحوت.
وفي مئات من التماثيل والمنحوتات الأخري وغيرها من المتروكات السومرية والآثارية الكثيرة من أختام اسطوانية ونقوش علي الأواني الفخارية وما شابه تتوضح لنا من كل ذلك مهمة الفنان السومري القديم، فبالإضافة إلي كونه فنانا يحاكي الصخر بأزميله لإنتاج تحف تعبر عن رغبته في مواصلة الحياة التي يريدها مختلفة حتما عن أداء الآخرين من أبناء قومه، حيث تكون واجباتهم ومهامهم تختلف عما يؤديه من دور، قد يكون مقدسا عند الكهنة، أو رسالي عند الملوك، وربما رمزي أو بوهيمي بالنسبة له، ولكنه في نفس الوقت يوثق لحياة دقيقة معاصرة لزمنه بأزميله، الذي يضرب به الصخر ليحيله من كتل متماسكة جرداء، إلي حياة مرئية معاشة في كل تفاصيل الحياة التي يلمسها ويراها، عدا كونها لا تنطق ولا تتحرك .
اعتقد أن العلماء الآثاريين عندما صنفوا الحياة السومرية القديمة، ودخلوا في تفاصيلها، لم يلجئوا إلي الملاحم والأساطير والأشعار وغيرها من المدونات ويجعلوها هي المرشد الأول لهم في كشف تلك الحياة بتفاصيلها، وإنما كان معينهم الأول هو ما وجودوه من تماثيل ومنحوتات ورسومات منقوشة فوق الأواني الفخارية أو الحجرية والأختام الأسطوانية ، كانت لهم بمثابة بنك المعلومات المعرفي لتأكيد الحياة السومرية المسطورة في المدونات، لحياة حافلة بالمآثر والأمجاد والبناء والعمران تاركة خلفها حضارة باقية علي مر الزمن هي الحضارة السومرية ومخلفاتها .
مع تحيات ابو فرات